الشرود مسألة لا بأس بها .. وهو يحاور نفسه من الأعماق .. وعينـه تنظر حولها ولكنها لا ترى .. وإن رأت لا تبالي .. تناقضات وأعطال عجيبة في قواميس الحواس .. وهناك أصوات بالجوار وهو لا يسمعها .. وهناك من يناديه ويكرر النداء وهو لا يجيب .. بل تأخذه غيبة تملكت كل حواسـه .. وفجأة أحس بيد تلكزه لتجلب انتباهه .. فأنتفض مذعوراً وكأنه كان نائماً .. والنوم مسألة أصبحت قضية تشتكي منها العيون .. وقد هجره النوم منذ تلك القصة .. وأصبح العمق في متاهات الشرود والابتعاد عن عوالم الواقع .. ومنذ تلك الحكاية .. حكاية الحلم العجيب .. وهي قالت إنها مجرد أحداث جرت في المنام .. وتحدثت عن شجرة كانت عند حافة النهر ثم سقطت فجأة .. وابتلعها النهر في لحظات .. والشجرة لم تكن يتيمة تشتكي الوحدة .. ولكن كان برفقتها ( هو ) فارس أحلامها .. تسلق إليها وهي قائمة تحتها تنتظر منه الثمرات وهي تتساقط .. ولكن بدلاً من ذلك فإذا بالشجرة تضحي بنفسها ثم تسقط فجأة بأهلها .. ثم في لحظات قليلة كانت في جوف النهر.. واختفى معها فارس الأحلام في غياب اليم .. قالت هي بكت وبكت .. وظلت واقفة جامدة في مكانها حتى أسكتها صوت الآذان .. فقامت مذعورة من نومها .. تلك هي لقطات من أحلام بعضها أضغاث وبعضها علامات تجلب الخوف .. وما كانت لتحكي رؤيتها لو لا أنها أحست بنوع من الغرابة في مجريات الحلم .. وأحست بأن الأيام بدأت تخطط لأمر يحتمل السقوط ويحتمل نهايات أبدية .
وبعد تلك الليلة التي كانت بقصة الشجرة الملعونة .. أتت ليالي كلها تشتكي من غرائب الأحداث .. وعلامات وإشارات تأخذ المجريات بسلطة مبهمة .. ومنها في زحام الأسواق تقدم منه ذلك الرجل صاحب الملابس الرثة الذي لم يراه من قبل .. ولكنه أقترب منه بقدر يرفع التكلفة بين غرباء ثم وشوش في أذنه بتلك الكلمات الغريبة .. فقال له ( أبتعـد عنها ) .. ثم فجأة احتفى في زحام البشر .. وهو مازال يقف مبهوراً وفي حيرة .. وحكاية ذاك الطفل الصغير بأعوامه الثلاثة والذي أفلت يده من يد أمه بشدة ثم توجه إليه مباشرة ليقول له كلاماً للكبار وليس للأطفال حيث قال والصوت صوت كبار ( لماذا لا تغادر البلدة فوراً ؟؟ ) .. ثم عاد فجأة لرحاب الطفولة ويمسك بيد أمه لينطلق !! .. وهو مازال يعاني مراحل الصدمة من هول الأحداث .. أمور تحدث له وهو يزداد حيرةً يوماً بعد يوم .. وأصبح الشرود والتوهان صفة تلازمه ليلاً ونهاراً .. فما الذي يجري في ساحته ؟؟ .. وهناك قصة ذلك الصوت عند طرف الميدان الشرقي حيث لا أحد هناك من البشر .. عندما سمع ذلك الصوت العجيب .. والذي خاطبه من حيث لم لا يرى صاحبه قائلاً : ( هي ساعات قليلة قد بقيت من عمرك وبعدها فالويل لك !! ) .. فوقف مشلولاً غير قادر على مجاراة تلك الأمور الطلاسمية .. ثم التفت يميناً ويساراً وشرقاً وغرباً ..ولكنه لم يرى أحد .
وهو محق في شروده وغيبة حواسه .. والعلامات كلها تشير إلى إرهاصات بعيدة تحمل في جوفها التحذير .. فهل هو في طريقه إلى الجنون ؟؟ .. قد يكون كذلك .. وخاصة وبعد إنكارها جازماً لتلك الرؤية .. وذلك القسم بالله بأنها لم تحكي له يوماً عن منام ولا عن شجرة ولا عن ثمرة !! .. إطلاقاُ .. والأعجب من ذلك كله فإن أحداث الغرائب التي وقعت له أصبحت في موضع الشك وخاصة بعد أن علم من الآخرين بأنه لم يغادر غرفته لفترة طويلة فاقت الشهور .. وهو بطبعه ليس من هؤلاء الذين يتناولون تلك الخبائث الممنوعة .. وليس من الآخرين الذين تتلاعب الخمور بعقولهم .. مبررات كانت لتكون وقفة سند تفسر المجريات .. ولكنه لم يكن يوماً كذلك .. ويبدو أنه في غفلة من الحقائق سافر في عمق الزمان حيث لا أماكن تلتزم بالواقع .. ولا أحداث تلتزم بالذمة .. ولا كيفية تطابق القصة .. إنما المشكلة كلها محصورة داخل عقل سافر عميقاً في عوالم الشرود والخيال .